يرتفع جبل إيفرست، أعلى قمة في العالم، كعملاقٍ يجذب المغامرين من جميع أنحاء العالم. بالنسبة للكثيرين، يُعدّ بلوغ قمته التي يبلغ ارتفاعها 8848 مترًا التعبير الأسمى عن التحدي البشري، حلمًا يجمع بين الجرأة والصمود والرغبة العميقة في قهر المستحيل. ومع ذلك، يحمل هذا العملاق الهيمالايا أيضًا قصصًا عن مأساة، عن أرواحٍ أُزهقت على منحدراته الجليدية، لتصبح شهودًا صامتين على عظمته التي لا تلين. من بين هذه القصص، تتناغم قصة فرانسيس أرسينتييف وسيرجي أرسينتييف مع مزيج من البطولة والحب والتضحية، في رواية تتجاوز الموت لتحكي عن البحث عن الخلاص في المرتفعات. رحلتهما، في الحياة والذاكرة، قصة تستحق أن تُروى.

فرانسيس أرسينتييف، المعروفة على جبل إيفرست باسم “الجميلة النائمة”، وزوجها سيرجي أرسينتييف، كانا متسلقي جبال أمريكيين حققا عام ١٩٩٨ ما يتخيله الكثيرون: الوصول إلى قمة إيفرست. إلا أن انتصارهما تحول إلى مأساة عندما فقدا حياتهما أثناء النزول في “منطقة الموت” المروعة، على ارتفاع يزيد عن ٨٠٠٠ متر، حيث يندر الأكسجين ويكافح الجسم البشري للبقاء على قيد الحياة. قصة الزوجين أرسينتييف ليست مجرد تذكير بمخاطر إيفرست، بل هي أيضًا شهادة على الجهود الاستثنائية المبذولة لاستعادة الكرامة في الموت، وهي عملية تُوجت بعد سنوات بمهمة دفنهما.
في مايو 1998، بدأت فرانسيس، البالغة من العمر 40 عامًا، وسيرجي، البالغ من العمر 41 عامًا، تسلقهما دون أكسجين إضافي، وهو إنجازٌ يُحتذى به لأكثر متسلقي الجبال خبرةً، إذ إن نقص الأكسجين في منطقة الموت قد يؤدي إلى نقص الأكسجين الدماغي، واتخاذ قراراتٍ عشوائية، وفي النهاية إلى الموت. وصل الزوجان، اللذان جمعهما شغفهما بالجبال، إلى القمة معًا، في لحظة نشوة وصفتها فرانسيس في رسائلها الأخيرة بأنها “حلمٌ تحقق”. إلا أن النزول، الذي لطالما كان أخطر من الصعود، كان سبب سقوطهما. ووفقًا للسجلات، بدأت فرانسيس تُظهر علامات إرهاقٍ شديدٍ وتوهان. حاول سيرجي، بدافع الحب، مساعدتها، لكنهما انفصلا في العاصفة الثلجية التي هبت على الجبل.

شوهد سيرجي آخر مرة وهو ينزل طلبًا للمساعدة لزوجته، لكنه لم يعد. عُثر على جثته لاحقًا، مما يُشير إلى أنه إما سقط أو استسلم للبرد. في هذه الأثناء، تُركت فرانسيس على منحدر قرب الطريق الرئيسي، على ارتفاع حوالي 8600 متر. لتسع سنوات، بقي جثمانها هناك، متجمدًا في الزمن، مرئيًا للمتسلقين المارين على الطريق الشمالي الشرقي. أصبح سترتها وحذاؤها الأرجوانيان معلمًا قاتمًا، وجسدها، وهي تستلقي كما لو كانت تستريح، أكسبها لقب “الجميلة النائمة”. بالنسبة للكثيرين، كان وجودها تذكيرًا دائمًا بهشاشة الإنسان في مواجهة الجبل.
يروي إيان وودال، متسلق جبال جنوب أفريقي حاول مساعدة فرانسيس عام ١٩٩٨ دون جدوى: “في كل مرة مررنا بها، شعرت بمزيج من الاحترام والحزن. كانت هناك، قريبة جدًا من القمة، لكنها بعيدة كل البعد عن الحياة. كنت أعلم أنني سأفعل شيئًا لها يومًا ما”. تأثر وودال بشدة بهذه التجربة، فقرر عام ٢٠٠٧ قيادة رحلة استكشافية لنقل جثمان فرانسيس إلى مكان أقل بروزًا، بعيدًا عن مسارات المتسلقين. لم تكن هذه المهمة عملاً إنسانيًا فحسب، بل كانت أيضًا جهدًا لاستعادة كرامة امرأة تحدت حدود الممكن.
إن انتشال الجثث من جبل إيفرست مهمةٌ جسيمة. ووفقًا لتقديرات هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، تتراوح تكلفة هذه العملية بين 40 ألف و80 ألف دولار، وتتطلب ما يصل إلى 12 من أفراد الشيربا، وكمياتٍ كبيرة من الأكسجين، وفي بعض الحالات، طائرات هليكوبتر. في حالة فرانسيس، واجه فريق وودال ظروفًا قاسية: رياح جليدية، وتضاريس غير مستقرة، وعبء عاطفي كبير للمهمة. قالت وودال في مقابلة لاحقة: “كان الأمر أشبه بتحرير روحها. لم نستطع تركها هناك، مكشوفة، كغنيمةٍ من الجبل”. تمكن الفريق من نقل جثمانها إلى مكانٍ محمي، حيث لن يراه المتسلقون بعد الآن، وهي لفتةٌ لاقت صدىً واسعًا في أوساط مجتمع متسلقي الجبال كبادرة احترام.

كان سيرجي، بدوره، هدفًا لجهود مماثلة. فرغم العثور على جثته في وقت سابق، عام ١٩٩٩، على ارتفاع أقل، إلا أن عملية انتشالها كانت بنفس التعقيد. وقد لعب الشيربا، الخبراء في مسارات إيفرست، دورًا حاسمًا في هذه العمليات. يقول أديتيا كاركي، قائد الجيش النيبالي الذي قاد مهمات تنظيف إيفرست: “لولا الشيربا، لما كان كل هذا ممكنًا”. ويضيف: “إنهم يعرفون الجبل معرفةً لا مثيل لها، ولكن حتى بالنسبة لهم، يُمثل نقل جثة على تلك المرتفعات تحديًا جسديًا ونفسيًا”. وبشكل عام، ساهمت عمليات انتشال جثث، مثل جثتي فرانسيس وسيرجي، في إزالة أطنان من النفايات، مما سلّط الضوء على التأثير البشري على الجبل.
لا تنتهي قصة عائلة أرسينتييف بوفاتهم أو انتشال جثثهم، بل إن إرثهم لا يزال حيًا في التأملات التي ألهموها في مجتمع متسلقي الجبال. بالنسبة للكثيرين، تُبرز مأساتهم أهمية الاستعداد واحترام الجبل. كتب متسلق الجبال آلان أرنيت، الذي تسلق القمة أربع مرات: “تسلق إيفرست ليس مجرد قوة بدنية؛ بل هو اختبار للحكمة والتواضع”. وأضاف: “الجبل لا يغفر الأخطاء، وقصة فرانسيس وسيرجي تُذكرنا بذلك”. علاوة على ذلك، أثارت قضيتهم جدلًا واسعًا حول أخلاقيات ترك الجثث على الجبل، وهي ممارسة شائعة نظرًا لارتفاع تكاليف ومخاطر انتشالها.
أضاف تغير المناخ بُعدًا جديدًا لهذه الرواية. فقد بدأ ذوبان الأنهار الجليدية في إيفرست، المُتسارع بفعل الاحتباس الحراري، يكشف عن جثث ظلت مختبئة تحت الثلوج لعقود. ووفقًا لتقرير صادر عن إنفوباي، لم تكشف هذه الظاهرة عن رفات بشرية فحسب، بل كشفت أيضًا عن أطنان من النفايات، من خزانات الأكسجين إلى الخيام. وقد دفع هذا الواقع الحكومة النيبالية إلى تطبيق لوائح جديدة، مثل زيادة رسوم تصاريح التسلق إلى 15 ألف دولار أمريكي، وجعل استخدام شرائح التتبع إلزاميًا لتسهيل عمليات الإنقاذ. ولا تهدف هذه الإجراءات إلى حماية المتسلقين فحسب، بل إلى الحفاظ على قدسية إيفرست أيضًا.
رحلة فرانسيس وسيرجي أرسينتييف ليست مجرد سردٍ للخسارة؛ إنها قصة حب وشجاعة وخلاص. حلمهما بتسلق جبل إيفرست قادهما إلى القمة، ولكنه قادهما أيضًا إلى تضحيةٍ جعلتهما جزءًا أبديًا من الجبل. بفضل جهود أشخاصٍ مثل إيان وودال والشيربا، لم تعد أجسادهما مجرد معالم بارزة على طريقٍ محفوفٍ بالمخاطر، بل رمزًا لكفاحٍ إنسانيٍّ يتجاوز الحياة نفسها. وبينما يواصل إيفرست جذب الحالمين من جميع أنحاء العالم، تدعونا قصة أرسينتييف إلى التأمل في معنى السعي وراء الحلم، وتكلفة الطموح، وقوة الرحمة في إعادة السلام لمن فقدوا في المرتفعات.