الحقيقة الخفية حول وفاة هتلر: هاينز لينجه يكسر الصمت بعد 79 عامًا
لنحو ثمانية عقود، تقبّل العالم رواية واحدة عن وفاة أدولف هتلر: انتحاره في مخبأ برلين في 30 أبريل/نيسان 1945، إلى جانب زوجته إيفا براون. إلا أن رواية منسية، مُخبأة في الأرشيف وأُسكتت من قِبَل التاريخ، عادت للظهور مُشككةً في ما ظننا أننا نعرفه. هاينز لينغه، خادم هتلر الشخصي لعشر سنوات، شهد اللحظات الأخيرة للزعيم النازي. تكشف روايته، التي رُفعت عنها السرية مؤخرًا، تفاصيل مُقلقة، وتناقضات صادمة، وحقيقة قد تُغير نظرتنا لواحدة من أحلك فترات القرن العشرين.

لم يكن هاينز لينغه، ضابط قوات الأمن الخاصة (SS) الذي خدم هتلر من عام ١٩٣٥ حتى وفاته، مجرد خادم. بصفته رئيسًا لطاقم موظفي منزل الفوهرر، كان لينغه ظلًا دائمًا لهتلر، يُدبّر كل تفاصيل حياته اليومية، من روتينه الصباحي إلى اجتماعاته في مستشارية الرايخ. منحه قربه منظورًا فريدًا، وجعله أيضًا شاهدًا رئيسيًا في الأيام الأخيرة للرايخ الثالث. بعد أن أسره السوفييت بعد سقوط برلين، أمضى لينغه عقدًا من الزمان في الأسر، حيث واجه استجوابات شاقة. وقد رُفعت السرية مؤخرًا عن أقواله، التي احتفظ بها جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (خليفة جهاز المخابرات السوفيتية) سرًا، مما ألقى ضوءًا جديدًا على أحداث قبو الفوهرر.
في شهادته المكتوبة بتاريخ 30 ديسمبر 1945، وصف لينجه بدقة اللحظات الأخيرة لهتلر: “في الساعة 3:15 مساءً يوم 30 أبريل، ودع هتلر غوبلز في مكتبه. كنت في غرفة الانتظار. حاول غوبلز دعوته للدخول، لكن هتلر رفض، قائلاً إن قراره لا رجعة فيه. ودع السيدة غوبلز والدكتور غوبلز، ثم عاد إلى مكتبه. تبعته أنا والقائد الرئيسي كروجر. أخبرنا هتلر أن نحاول الهروب غربًا والوقوع في أيدي الحلفاء. أعربت عن ولائي ووعدته بأن أبقيه في أفكاري. ثم غادرت أنا وكروجر المكتب. بعد حوالي خمس دقائق، سُمع صوت طلقة نارية.” يبدو أن هذه الرواية الدقيقة والمرعبة تؤكد انتحار هتلر، ولكن ليس كل شيء واضحًا كما يبدو.

يُفصّل لينجه الأسباب التي دفعت هتلر إلى الانتحار: “عدم جدوى مواصلة القتال، وخوف هتلر من محاولة الهروب من برلين، وضعف حالته الصحية التي لم تعد قادرة على تحمّل المزيد من المشاق، وجنون العظمة الذي منعه من الاستسلام أو التفاوض مع المنتصر”. إلا أن ما يجعل هذه الشهادة مثيرة للاهتمام هو التناقضات التي تظهر عند مقارنتها بمصادر أخرى. على سبيل المثال، ادعى لينجه في البداية أنه لم يسمع صوت الطلقة، بل شمّ رائحة البارود فقط، مما دفعه إلى إبلاغ مارتن بورمان بالانتحار. ثم صحّح أقواله لاحقًا، مُقرًّا بأن كلماته الأولى كانت غير دقيقة: “يجب أن أعترف بأن شهادتي السابقة كانت غير صحيحة. لم أسمع صوت الطلقة، بل لاحظتُ رائحة البارود فقط، وبناءً على ذلك، أبلغتُ بورمان بحدوث الانتحار”. يثير هذا التناقض تساؤلات حول الضغط الذي مارسه السوفييت على لينجه خلال فترة أسره.
تكشف الوثائق التي رُفعت عنها السرية أيضًا عن تفاصيل مروعة للمشهد الأخير. تصف لينغ ملابس هتلر وبراون وقت وفاتهما: “كان هتلر يرتدي قميصًا أبيض بياقة مطوية، وصدرية سوداء، وسترة رمادية مزدوجة الصدر من قماش الجبردين، وبنطالًا أسود طويلًا من قماش الجبردين الفاخر، وجوارب سوداء مصنوعة من ورق رقيق، وحذاءً جلديًا أسود. أما زوجته فكانت ترتدي فستانًا حريريًا فاخرًا، وجوارب حريرية رقيقة جدًا، وحذاءً بكعب عالٍ، ربما من صنع إيطالي”. هذه التفاصيل، وإن بدت تافهة، إلا أنها تُعزز مصداقية شهادتها، وترسم صورة حية للحظات الأخيرة في المخبأ.

ومع ذلك، لم تكن كل الاحتمالات متطابقة تمامًا. ادعى لينجه استحالة وجود شبيه لهتلر ليحل محله: “لا يمكن أن يكون شبيه هتلر قد انتحر لأن: 1) لم يكن لدى هتلر شبيه، 2) كان من المستحيل عليه مغادرة الغرفة، إذ لم يكن هناك سوى مخرج واحد”. على الرغم من هذا الادعاء، استمرت التكهنات حول هروب هتلر المحتمل لعقود، مدفوعةً بغياب الشفافية لدى السوفييت في البداية وتضارب التقارير. على سبيل المثال، ادعى السوفييت العثور على عدة جثث، مما أثار الشكوك حول هوية الرفات. حتى التحليل الجنائي لشظية جمجمة، التي كان يُعتقد لسنوات أنها تعود لهتلر، تبين أنها لامرأة، مما غذى نظريات المؤامرة.
تُعقّد شهادة لينغه أيضًا تصريحات أوتو غونش، المساعد الشخصي لهتلر. ادّعى غونش، الذي كان حاضرًا أيضًا في المخبأ، في البداية أنه لم يعلم بطريقة انتحار هتلر إلا من لينغه. إلا أنه في عام ١٩٥٦، شهد غونش بأنه رأى جرحًا ناتجًا عن رصاصة في صدغ هتلر الأيمن، وهو ما يتوافق مع رواية لينغه المُعدّلة. تشير هذه التناقضات، بالإضافة إلى الضغط النفسي الذي مارسه السوفييت، إلى أن الحقيقة ربما تكون قد شُوّهت، إما بدافع الخوف أو التلاعب أو الولاء للفوهرر. على سبيل المثال، أخبر لينغه عميلًا سوفيتيًا سريًا أنه “هو وبورمان وحدهما كانا يعلمان بظروف وفاة هتلر”، وأنه لن ينهار أمام آسريه.

يُضيف السياق التاريخي مزيدًا من الغموض. ففي عام ١٩٤٥، أبقى السوفييت على سرية معظم المعلومات المتعلقة بوفاة هتلر، مما سمح بظهور شائعات بأنه هرب، ربما إلى أمريكا الجنوبية. وقد غذّى عدم العثور على جثة يمكن التعرف عليها وتدمير البقايا المحروقة في حديقة مستشارية الرايخ هذه التكهنات. حتى مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) ووكالة المخابرات المركزية (CIA) حققا في تقارير عن مشاهدات هتلر في السنوات التي تلت الحرب، على الرغم من أنهما لم يعثرا على أدلة موثوقة. وقد أدى رفع السرية عن ملفات جهاز الأمن الفيدرالي (FSB) في عام ٢٠٢٥ إلى إحياء الاهتمام بهذا الموضوع، لا سيما وأن شهادة لينغه تتناقض جزئيًا مع الروايات الرسمية.
إذن، ما الذي يمكن استنتاجه؟ رواية لينغه، على الرغم من تفصيلها وتماسكها إلى حد كبير، ليست خالية من العيوب. فالتناقضات في أقواله، وضغط الاستجوابات السوفيتية، وغياب الأدلة المادية القاطعة، كلها أمور تترك مجالًا للشك. ومع ذلك، فإن تقارب شهادات شهود آخرين، مثل زعيم شباب هتلر، أرتور أكسمان، وسجلات أسنان هتلر، تدعم رواية الانتحار. على سبيل المثال، أفاد أكسمان برؤية دم على صدغي هتلر، مع أنه لم يستطع تأكيد وجود جرح دخول واضح. وتظل سجلات الأسنان، عند مقارنتها بالبقايا التي عثر عليها السوفييت، أقوى دليل على وفاة هتلر في المخبأ.
قصة موت هتلر، على الرغم من كونها آسرة، ليست مجرد سرد للحقائق التاريخية، بل هي أيضًا تذكيرٌ بكيفية تلاعب من يتحكمون في الرواية بالحقيقة وإخفائها وتحريفها. هاينز لينغه، الرجل الذي وقف إلى جانب هتلر حتى النهاية، يُلقي علينا نظرةً على تلك اللحظة المحورية، ولكنه يتركنا أيضًا أمام أسئلةٍ بلا إجابات. هل كانت الرصاصة التي أصابت المعبد هي السبب الوحيد لموت هتلر؟ لماذا التزم السوفييت الصمت كل هذا الوقت؟ والأكثر إثارةً للقلق، ما الذي قد يكون مخفيًا أيضًا في الملفات التي لا تزال غير سرية؟ الحقيقة، كما هي العادة، تبدو بعيدة المنال، مُحاطةً بظلال التاريخ.